فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ لَيْسَ بِي أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ ضُرُوبِ السَّفَاهَةِ وَشَوَائِبِهَا، وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ وَهِيَ أَمَانَةٌ عَنْهُ، فَلَا يَخْتَارُ لَهَا إِلَّا أَهْلَ الْحَصَافَةِ بِرُجْحَانِ الْعَقْلِ وَسِعَةِ الْحِلْمِ وَكَمَالِ الصِّدْقِ وَإِلَّا لَفَاتَ مَا يَقْصِدُ بِهَا مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَمْ تَقُمْ بِهَا لِلَّهِ الْحُجَّةُ.
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} بَيَانٌ لِوَظِيفَةِ الرَّسُولِ وَحَالِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا، أَيْ أُبَلِّغُكُمُ التَّكَالِيفَ الَّتِي أُرْسِلْتُ بِهَا، وَالْحَالُ أَنَّنِي أَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ فِيمَا أُبَلِّغُكُمْ إِيَّاهُ وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ لِأَنَّ فِيهِ سَعَادَتَكُمْ، أَمِينٌ عَلَى مَا أَقُولُ فِيهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى فَإِنَّنِي لَا أَكْذِبُ عَلَيْكُمْ فَكَيْفَ أَكْذِبُ عَلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ؟ وَهَذَا أَقْوَى مِنْ قَوْلِ نُوحٍ: وَأَنْصَحُ لَكُمْ؛ فَإِنَّهُ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ النُّصْحَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِهِ ثَابِتٌ لَهُ عِنْدَهُمْ، لِمَا يَعْهَدُونَ مِنْ سِيرَتِهِ مَعَهُمْ، وَكَذَلِكَ الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ؛ لِأَنَّهُمْ رَمَوْهُمْ بِالْكَذِبِ وَالسَّفَاهَةِ، وَقَوْمُ نُوحٍ إِنَّمَا رَمَوْهُ بِالضَّلَالَةِ.
{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} تَقَدَّمَ مِثْلُهُ مِنْ قَوْلِ نُوحٍ {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} أَيْ وَاذْكُرُوا فَضْلَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَنِعَمَهُ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزَادَكُمْ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بَسْطَةً وَسِعَةً فِي الْمُلْكِ وَالْحَضَارَةِ. أَوْ زَادَكُمْ بَسْطَةً فِي خَلْقِ أَبْدَانِكُمْ؛ إِذْ كَانُوا طُوَالَ الْأَجْسَامِ أَقْوِيَاءَ الْأَبْدَانِ. وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ رِوَايَاتٌ إِسْرَائِيلِيَّةُ الْأَصْلِ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي طُولِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَلَا يُحْتَجُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا. وَلَكِنْ نَصَّ عَلَى قُوَّتِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ وَالشُّعَرَاءِ وَفُصِّلَتْ {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أَيْ فَاذْكُرُوا نِعَمَ اللهِ وَاشْكُرُوهَا لَهُ لَعَلَّكُمْ تَفُوزُونَ بِمَا أَعَدَّهُ لِلشَّاكِرِينَ مِنْ إِدَامَتِهَا عَلَيْهِمْ وَزِيَادَتِهَا لَهُمْ، وَلَنْ تَكُونُوا كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا عَبَدْتُمُوهُ وَحْدَهُ وَلَمْ تُشْرِكُوا بِعِبَادَتِهِ أَحَدًا، لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ وَلَا عَلَى سَبِيلِ جَعْلِهِ وَاسِطَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ فَإِنَّ هَذَا حِجَابٌ دُونَهُ، وَمَنْ حَجَبَ نَفْسَهُ عَمَّا كَرَّمَهُ رَبُّهُ بِهِ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي الدُّنْيَا حُجِبَ عَنْ لِقَائِهِ فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا يُحْجَبُ عَنْ رَبِّهِمُ الْكَافِرُونَ. لَا الْمُؤْمِنُونَ الشَّاكِرُونَ.
{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} الْمُرَادُ مِنَ الْمَجِيءِ الْإِتْيَانُ بِالرِّسَالَةِ حَسْبَ دَعْوَاهُ الصَّادِقَةِ فِي نَفْسِهَا الْكَاذِبَةِ فِي ظَنِّهِمُ الْآثِمِ. عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ الْمَجِيءَ وَالذِّهَابَ وَالْقُعُودَ وَالْقِيَامَ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الشُّرُوعِ فِي الشَّيْءِ وَبَيَانِ حَالِهِ- يُقَالُ: جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ كَيْفَ يُحَارِبُونَ، وَذَهَبَ يُقِيمُ قَوَاعِدَ الْعُمْرَانِ، {وَنَذَرَ} بِمَعْنَى نَتْرُكَ، لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْ مَادَّتِهِ إِلَّا الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ.
وَالْمَعْنَى: أَجِئْتَنَا لِأَجْلِ أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْآثَامِ، وَنَتْرُكَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مَعَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ فَنُحَقِّرَهُمْ وَنَمْتَهِنَهُمْ بِرَمْيِهِمْ بِالْكُفْرِ، وَنُحَقِّرَ أَوْلِيَاءَنَا وَشُفَعَاءَنَا عِنْدَ اللهِ بِتَرْكِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِمْ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَهُمُ الْوَسِيلَةُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ وَالتَّعْظِيمِ لِصُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ وَقُبُورِهِمْ وَالنَّذْرِ لَهُمْ وَذَبْحِ الْقَرَابِينِ عِنْدَهُمْ؟ وَهَلْ يَقْبَلُ اللهُ عِبَادَتَنَا مَعَ ذُنُوبِنَا إِلَّا بِهِمْ وَلِأَجْلِهِمْ؟ اسْتَنْكَرُوا التَّوْحِيدَ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِمَا أَبْطَلَهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ مِنَ التَّقْلِيدِ وَاسْتَعْجَلُوا الْوَعِيدَ قَالُوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أَيْ فَجِئْنَا بِمَا تَعِدُنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِكَ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى تَوْحِيدِكَ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي إِنْذَارِكَ أَوْ فِي أَنَّكَ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْوَعْدَ بِمَعْنَى الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ وَالْمُرَادُ بِهِ هُوَ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ هُنَا: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} وَصَرَّحَ بِهِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِقوله: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (26: 135) {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} يُطْلَقُ الرِّجْسُ عَلَى الْقَبِيحِ الْمُسْتَقْذَرِ حِسًّا أَوْ مَعْنًى وَبِمَعْنَى الرِّجْزِ وَهُوَ الْعَذَابُ أَوْ سَيِّئُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْآيَةَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ وَفَسَّرَ الرِّجْسَ بِالْعَذَابِ قَالَ لِأَنَّهُ جَزَاءُ مَا اسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ الرِّجْسِ، وَذُكِرَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمَادَّةِ أَنَّ الرَّجْسَ بِالْفَتْحِ صَوْتُ الرَّعْدِ وَأَنَّهُ يُقَالُ: رَجَسَتِ السَّمَاءُ وَارْتَجَسَتْ: قَصَفَتْ بِالرَّعْدِ قَالَ وَالنَّاسُ فِي مَرْجُوسَةٍ، أَيْ فِي اخْتِلَاطٍ قَدِ ارْتَجَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُمُ اهـ. وَمِثْلُهَا فِي هَذَا مَادَّةُ الرِّجْزِ وَمِنْهُ فِي (34: 5، 45: 11) {لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٍ} وَقَدْ كَانَ الْعَذَابُ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ وَوَقَعَ عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا، أَيْ ذَاتَ صَوْتٍ شَدِيدٍ عَاتِيَةً كَانَتْ {تَنْزِعُ النَّاسَ} مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ تَرْمِيهِمْ بِهَا صَرْعَى {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} (54: 20) قَدْ قُلِعَ مِنْ مَنَابِتِهِ وَزَالَ عَنْ أَمَاكِنِهِ، وَذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الرِّجْسِ وَالِارْتِجَاسِ وَالرِّجْزِ وَالِارْتِجَازِ وَقَوْلُهُ: {وَقَعَ} مَجَازٌ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْمُتَوَقَّعِ لِتَحَقُّقِهِ وَقُرْبِهِ، وَعَطَفَ الْغَضَبَ عَلَى الرِّجْسِ لِبَيَانِ أَنَّ الرِّجْسَ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الِانْتِقَامُ الْحَتْمُ فَلَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ، وَالْعِيَاذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِهِ، مَا كَانَ مِنْهُ حَتْمًا عِقَابُهُ كَهَذَا، وَمَا كَانَ مُمْكِنًا دَفْعُهُ بِالتَّوْبَةِ كَعِقَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. اللهُمَّ تُبْ عَلَى أُمَّتِنَا وَارْفَعْ عَنْهَا رِجْسَ الْأَجَانِبِ الطَّامِعِينَ، وَأَعْوَانِهِمُ الْمُنَافِقِينَ.
{أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أَيْ أَتُخَاصِمُونَنِي وَتُمَارُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ وَضَعْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الَّذِينَ قَلَّدْتُمُوهُمْ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ، لِمُسَمَّيَاتٍ اتَّخَذُوهَا فَاتَّخَذْتُمُوهَا آلِهَةً زَاعِمِينَ أَنَّهَا تُقَرِّبُكُمْ إِلَى اللهِ زُلْفَى وَتَشْفَعُ عِنْدَهُ لَكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ يُصَدِّقُ زَعْمَكُمْ بِأَنَّهُ رَضِيَ أَنْ تَكُونَ وَاسِطَةً بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَكُمْ، وَكَيْفَ وَهُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي يَصْمُدُ إِلَيْهِ عِبَادُهُ فِي الْعِبَادَةِ وَطَلَبِ مَا لَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْهُ بِالْأَسْبَابِ، أَيْ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُونَ فِي تَوْجِيهِ قُلُوبِهِمْ إِلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (6: 79) وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِعِبَادَتِهِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ إِلَّا مِمَّا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ؛ إِذْ لَا يَعْلَمُ مَا يُرْضِيهِ وَيَصِحُّ عِنْدَهُ مِنْ عِبَادَتِهِ غَيْرُهُ إِلَّا الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ. وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} أَيْ فَانْتَظِرُوا نُزُولَ الْعَذَابِ الَّذِي طَلَبْتُمُوهُ بِقَوْلِكُمْ: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ وَلَكِنَّنِي مُوقِنٌ وَأَنْتُمْ مُرْتَابُونَ، وَجَادٌّ وَأَنْتُمْ هَازِلُونَ.
{فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} أَيْ فَلَمَّا جَاءَ أَمرُنَا أَنْجَيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ لَدُنَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُنَا {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} أَيِ اسْتَأْصَلْنَاهُمْ بِرِيحٍ عَاتِيَةٍ {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} (46: 25). اهـ.

.قال السعدي:

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}.إلى آخر القصة.
أي: {و} أرسلنا {إِلَى عَادٍ} الأولى، الذين كانوا في أرض اليمن {أَخَاهُمْ} في النسب {هُودًا} عليه السلام، يدعوهم إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك والطغيان في الأرض.
فـ {قَالَ} لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} سخطه وعذابه، إن أقمتم على ما أنتم عليه، فلم يستجيبوا ولا انقادوا.
فـ {قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} رادين لدعوته، قادحين في رأيه: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي: ما نراك إلا سفيها غير رشيد، ويغلب على ظننا أنك من جملة الكاذبين، وقد انقلبت عليهم الحقيقة، واستحكم عماهم حيث رموا نبيهم عليه السلام بما هم متصفون به، وهو أبعد الناس عنه، فإنهم السفهاء حقا الكاذبون.
وأي سفه أعظم ممن قابل أحق الحق بالرد والإنكار، وتكبر عن الانقياد للمرشدين والنصحاء، وانقاد قلبه وقالبه لكل شيطان مريد، ووضع العبادة في غير موضعها، فعبد من لا يغني عنه شيئا من الأشجار والأحجار؟
وأي كذب أبلغ من كذب من نسب هذه الأمور إلى اللّه تعالى؟
{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} بوجه من الوجوه، بل هو الرسول المرشد الرشيد، {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}.
فالواجب عليكم أن تتلقوا ذلك بالقبول والانقياد وطاعة رب العباد.
{أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} أي: كيف تعجبون من أمر لا يتعجب منه، وهو أن اللّه أرسل إليكم رجلا منكم تعرفون أمره، يذكركم بما فيه مصالحكم، ويحثكم على ما فيه النفع لكم، فتعجبتم من ذلك تعجب المنكرين.
{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} أي: واحمدوا ربكم واشكروه، إذ مكن لكم في الأرض، وجعلكم تخلفون الأمم الهالكة الذين كذبوا الرسل، فأهلكهم اللّه وأبقاكم، لينظر كيف تعملون، واحذروا أن تقيموا على التكذيب كما أقاموا، فيصيبكم ما أصابهم، {و} اذكروا نعمة اللّه عليكم التي خصكم بها، وهي أن {زَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} في القوة وكبر الأجسام، وشدة البطش، {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} أي: نعمه الواسعة، وأياديه المتكررة {لَعَلَّكُمْ} إذا ذكرتموها بشكرها وأداء حقها {تُفْلِحُونَ} أي: تفوزون بالمطلوب، وتنجون من المرهوب، فوعظهم وذكرهم، وأمرهم بالتوحيد، وذكر لهم وصف نفسه، وأنه ناصح أمين، وحذرهم أن يأخذهم اللّه كما أخذ من قبلهم، وذكرهم نعم اللّه عليهم وإدرار الأرزاق إليهم، فلم ينقادوا ولا استجابوا.
فـ {قَالُوا} متعجبين من دعوته، ومخبرين له أنهم من المحال أن يطيعوه: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} قبحهم اللّه، جعلوا الأمر الذي هو أوجب الواجبات وأكمل الأمور، من الأمور التي لا يعارضون بها ما وجدوا عليه آباءهم، فقدموا ما عليه الآباء الضالون من الشرك وعبادة الأصنام، على ما دعت إليه الرسل من توحيد اللّه وحده لا شريك له، وكذبوا نبيهم، وقالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وهذا استفتاح منهم على أنفسهم.
فقَالَ لهم هود عليه السلام: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} أي: لابد من وقوعه، فإنه قد انعقدت أسبابه، وحان وقت الهلاك.
{أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} أي: كيف تجادلون على أمور، لا حقائق لها، وعلى أصنام سميتموها آلهة، وهي لا شيء من الآلهة فيها، ولا مثقال ذرة و{مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} فإنها لو كانت صحيحة لأنزل اللّه بها سلطانا، فعدم إنزاله له دليل على بطلانها، فإنه ما من مطلوب ومقصود- وخصوصا الأمور الكبار- إلا وقد بين اللّه فيها من الحجج، ما يدل عليها، ومن السلطان، ما لا تخفى معه.
{فَانْتَظِرُوا} ما يقع بكم من العقاب، الذي وعدتكم به {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} وفرق بين الانتظارين، انتظار من يخشى وقوع العقاب، ومن يرجو من اللّه النصر والثواب، ولهذا فتح اللّه بين الفريقين فقال: {فَأَنْجَيْنَاهُ} أي: هودا {وَالَّذِينَ} آمنوا {مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} فإنه الذي هداهم للإيمان، وجعل إيمانهم سببا ينالون به رحمته فأنجاهم برحمته، {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: استأصلناهم بالعذاب الشديد الذي لم يبق منهم أحدا، وسلط اللّه عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، فأهلكوا فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، فانظر كيف كان عاقبة المنذرين الذين أقيمت عليهم الحجج، فلم ينقادوا لها، وأمروا بالإيمان فلم يؤمنوا فكان عاقبتهم الهلاك، والخزي والفضيحة.
{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}.
وقال هنا {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} بوجه من الوجوه، بل وصفهم التكذيب والعناد، ونعتهم الكبر والفساد. اهـ.

.قال سيد قطب:

وتمضي عجلة التاريخ، ويمضي معها السياق، فإذا نحن أمام عاد قوم هود: {وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إنا كنت من الصادقين قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين}.